يوم الجمعة العاشر من مارس سنة 1933م في منطقة اسمها شبراخيت في محافظة البحيرة في مصر، ولد طفل اسمه عبد الحميد عبد العزيز محمد كشك، سليما معافى لأسرة فقيرة مستورة ، وهو في سن الست سنوات أصيبت عينيه بمرض اسمه الرمد الصديدي والذي يعالج بمضاد حيوي أو غسول عيون ، لكن في ذلك الزمان كان دكتور القرية حلاقها ، فأخطأ الحلاق في علاج وأصاب عين الطفل اليسرى، وبقي يرى بعين واحدة ، أخذه والده إلى كتاب القرية ليتعلم وفي أقل من أربعة سنين وقبل أن سن العشر سنوات كان قد أتم عبد الحميد حفظ كتاب الله.
وحرصا على مستقبل الطفل في حالته هذه رأى والده أن يتابع تعليمه ، فاشترى له جبة وعباية وذهب به إلى المعهد الديني في محافظة الإسكندرية، كان التعليم بالنظام الداخلي وكل أسبوع يعود عبد الحميد لقريته، فكان ينقل ما درسه إلى أهل قريته، وبهذا يتدرب عل الخطابة والإلقاء ومواجهة الجماهير المستمعة…، وبعد يومين يرجع لدراسته.
وفي سنة 1948 كان في هذه السنة كان أول صعود عبد الحميد كشك على المنبر في صلاة الجمعة وهو في سن الخامسة عشر، وكان موضوع الخطبة هن سوء إدارة المستشفيات في منطقته وانتشار الفساد في المصالح الحكومية هناك، وبهذا تقدم فيه أول بلاغ من مدير مستشفى المنطقة التي يسكن فيها في هذه السن الصغيرة وفي بداية مشواره العملي.
وفي سنة 1950 ونظرا لإصابة عينه اليسرى فكان كل تركيزه على العين اليمنى ومع انكبابه على الدراسة ضعفت عينه اليمنى، وفي أخر يوم امتحانات في عام تخرجه الأخير تسود الدنيا ويفقد النظر كاملا ، من صدمته أنعكف في المنزل لمدة سنتين كاملتين لا يقوى على مواجهة الظلام في بصره ، حتى قرر بعدها أن يكمل تعليمه بإصرار رغم الصعوبات الكبيرة التي يعلم أنه سيتعرض لها، ففي سنة 1952م التحق بالثانوية الأزهرية بالقاهرة وكان متفوقا جدا في دراسته، حيث أنه في السنة الثانية تحصل على درجة %100 في جميع المواد ، وفي الشهادة الثانوية كان الأول على الجمهورية المصرية كلها بين المكفوفين، ودخل بعدها كلية أصول الدين في جامعة الأزهر ، وكان الأول على دفعته في كل سنوات دراسته هناك ليتخرج منها سنة 1961 بتفوق ، فعين فورا بعد تخرجه معيدا في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وبعد أول محاضرة له ترك التدريس في الجامعة لأنه لم يجد ضالته في مهنة التدريس، وطلب تعيينه كإمام وخطيب، وانتقل بين المساجد خطيبا فيها … حتى استقر في مسجد عين الحياة في منطقة حدائق القبة وهذا سنة 1964م، واشتهر حتى أصبح الناس يسمون المسجد باسمه مسجد الشيخ كشك، وكان يسميه هو مسجد محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل المسجد يقوم بدور كبير في العلم والتدريس والتطبيب…، لإيمانه بأن دور المسجد كبير ويمكنه أن يحقق حاجات الناس المختلفة، وفي هذه الفترة كانت هناك حملة على جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والشيخ كشك كالعادة لا يسكت على ظلم ، فخطب في منبره: أن أغلب الشيوخ الكبار في مصر يساقون إلى حبل المشنقة والى غياهب السجون، وهذا لا يعني أنه من الجماعة أو منتمي لأي حزب سياسي، فقد كان بعيدا كل البعد عن هذا، ونتيجة ذلك كانت استجوابات في أمن الدولة من فنية إلى أخرى.
وفي سنة 1965م تم القبض على مجموعة من أصحاب الفكر الإسلامي والمنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين منهم السيد قطب، فقد أشار في كتابه “قصة أيامي” يقول : “أن عبد الحكيم عامر يعلم أن لك شعبية ومحبة في قلوب الناس وأنه يطلب منه أن يحل دم الشيخ سيد قطب ومن معه”، فالشيخ رفض وقتها وقال:” أأفتي بحل دم الأبرياء وأبيع آخرتي بدنياي”، وفي 14 أفريل 1965م تم القبض على الشيخ عبد الحميد كشك في محل سكناه وسجن في الزنزانة رقم 19 في سجن القلعة، وله في ذلك أقوال حيث أحس بالظلم الكبير، إثر ذلك حول الشيخ وقتها من سجن القلعة إلى سجن طره إلى أبو زعبل، وقد صور الشيخ في كتابه “قصة أيامي” أشكال الظلم والتعذيب التي تعرض لها طوال فترة سجنه…، وفي 30 مارس 1968م خرج الشيخ كشك من السجن من غير تهمة ولا محاكمة.
وفي سنة 1970م هيأ الله للشيخ كل ظروف التي تصنع منه أسطورة حقيقية آنذاك، لسانه المنطلق، وحنجرته المتفردة، واضطهاده من طرف السلطة الحاكمة في عهد عبد الناصر والسادات، وأهم شيء هو ظهور اختراع شريط الكاسيت وانتشاره في الوطن العربي، فكان بوابة عبور له في كل التراب المصري والوطن العربي، حيث كان يحظّر لخطبة الجمعة القادمة من عصر الجمعة المنصرمة ، ويأتي بمن يقرأ له الجرائد والكتب مع القرءان ويضيف من شخصيته الفكاهية المرحة ليخرج بخطبة تأسر المستمعين بلغة عربية فصحى خفيفة تصل إلى الجميع، فأصبح برنامجه في فترة قصيرة من أنجح البرامج في الوطن العربي يتطرق إلى كل المواضيع ينتقد كل الأسماء دون استخدام أي كلام لا يليق، ورغم أنه كان ضريرا إلا أنه كان صاحب المقولة التي لابد من تسليط الضوء عليها وهي: “لا يمكن أن تصلح الأمة إلا إذا صلح جهاز إعلامها”، والأحداث السياسية وقتها كانت مستفزة خاصة بعلاقة الحكومة المصرية بالكيان الصهيوني، هذا الأمر الذي جعل صوت الشيخ يعلو ضد سياسة الحكم ورئيسها، ففي إحدى خطبه جاء من يقول للناس أن الشيخ لا يمكنه أن يخطب لهم اليوم لأنه أعتقل مع عديد من الإسلاميين وقتها، وبعد شهر توفي الرئيس السدات واعتلى الحكم مبارك الذي أطلق سراح جميع المعتقلين الذين اعتقلهم السدات وقتها منهم الشيخ عبد الحميد كشك ، وقد تم إحالة الشيخ إلى التقاعد ومنعه من إلقاء الخطب والظهور في أي وسيلة إعلامية للأبد، ودام هذا المنع 15 سنة حتى وفاته ألف فيها الشيخ 15 مؤلفا في علوم الدين المختلفة وعلى رأسهم تفسير لكتاب الله، وفي جنازة الشيخ التلمساني جاءته فرصة مسك فيها الميكرفون مرة أخرى وصدح صوته بهذه الكلمات: “اسألوا التاريخ عن عبد الناصر، واسألوا التاريخ عن السادات، واسألوا التاريخ عن جبابرة الشرق والغرب، اسألوا التاريخ عنهم أين هم الآن؟”، إثر هذا تم التضييق عن الشيخ وهوجم وحوصر أكثر من قبل.
ويوم الجمعة 06 ديسمبر 1996م وكعادة الشيخ يذهب للمسجد من الصباح ، فلبس ثيابه ووضع سجادته في غير وقت صلاة اختار فيها الوقوف بين يدين ربه وفي الركعة الثانية قام من السجدة الأولى وسجد الثانية وكانت الأخيرة، وبهذا استجاب الله لدعائه الذي يقول فيه: “اللهم أحيني إماما وأمتني إماما واحشرني وأنا ساجد بين يديك يا رب العالمين”.