عندما يكبر الإنسان يكتشف أنّ الحوادث الماضية التي مرّت عليه في حياته كانت كثيرة؛ بعضها يختفي كالسّراب من ذاكرتنا والبعض الآخر يترك أثراً كبيراً. ها هي قريتي التي كبرت فيها وكبَرتْ أحلامي، هنا كنت ألعب وألْهو مع أقراني، إنّني أحِنُّ إلى تلك الأيّام الحُلوة، ها قد مرّت خمس سنين على آخر مرّةٍ زُرتُ فيها قريتي. وقفت أستنشق رحيقَ هواك وعبيرك، أخذت شهيقاً وزفيراً لأتذكّر شارعي، شارع “أقرقور” بقرية أيت بوغلاب ، شارعٌ لازالت عصافيره تحتضن صدى صوت الطُّفوليّ، ابتسامتي الصّادقة التي تفرض نفسها كلّما أقف لأرى حيِّي الشعبيّ، حديقتي، مدرستي، وكذلك مكتبة القرية، تلك التي كانت مصدر شغفي وجنّتي على الأرض والتي تطلّ على حديقةٍ تكسوها الزّهور من شتّى الألوان والأشكال، وأشجارها المزدانة بشتّى الثّمار، وأوراقها التي تتراقص معاً دون نفحة هوائيّة، وخيوط الشّمس الذّهبيّة المتسلّلة من بين أغصانها تبعث في نفوس زوّارها الهدوء والطّمأنينة مرحّبةً بهم، تحتلّ وسط الحديقة نوافير بها بضعة أسماكٍ مختلفةِ الأحجام والألوان، فما أجمل صوت مياهها وهي تعزف سمفونيّته! حتى إذا بي أسمع صوت رنين جرس المدرسة، وأصوات ضحك ولعب التّلاميذ تترامى في طبلة أذني مختلطةً مع أصوات البائعين المتجوّلين، فمنهم من يبيع سمكاً ومنهم يبيع فاكهةً والبعض الآخر يبيع خُضرواتٍ طازجةً ومنهم تجارا من ولايات مختلفة يأتون للاسترزاق، وترى كبار السّن مجتمعون حول المائدة للعب الشّطرنج أو تبادل الأخبار والحكايات، دكّان العمِّ العياشي الذي لا يخلو من الجلوس لأهل القرية و كذا دكان نبيل الممتلئ من
الزّبائن وأصواتِ لهْوِ الأطفال الصّغار بلا أدنى مللٍ، فكلّ هذا يرسم في مخيّلتي لوحةً فنيّةً مطرّزةً، إنّه إبداعٌ لا نهائيّ وتاريخٌ استثنائيٌّ. فهمت في تلك اللّحظة معنى الوطن، وأنّه مهما طفت العالم كلّه لازالت قريتي أجمل مكانٍ في العالم