اضحى الجو في بيت عمي بوزيد متشنجا والكل قلق واعصابه مشدودة نظرا لما آلت إليه حالة فتيحة حتى سامية العروسة الجديدة لم تفرح بدخولها قفص الزوجية فهي تبكي لحال اختها باستمرار فاختار احمد زوجها لذلك وأصبح كل يوم يأتي بها لنراها وتمكث بعض الوقت معها ضف الى ذلك الظروف المادية الخانقة التي كان يعاني منها رغم أنه تحصل على عمل كرجل أمن في إحدى الشركات سعيا منه ليغطي عجز الميزانية و تلبية حاجياته بيته و وأولاده غير أن عرس سامية أتى على الأخضر و اليابس ،انظروا لحاله يرى ابنته تذبل يوما بعد يوم وهو عاجز أن يتصرف ،لكن سوء الحال جعله يقرر أن يأخذها العاصمة فقد تجمعت حوله سامية و الام خديجة : تصرف يا بوزيد فتيحة في خطر استلف وخذها الى مصطفى باشا ولا تعد بها حتى يجدوا لها علاجا ،عمي بوزيد : اتحسبين مصطفى باشا ملكية ابي حتى اخذها بدون موعد ؟ الام خديجة : لا اقبل منك اي اعذار بنتي في خطر و يجب أن نتصرف ، لم يكن عمي بوزيد ذلك الرجل المتنصل من مسؤولياته تجاه أبناءه لكنه رجل ليس له خبرة في مجاراة المدينة الكبيرة ذاك النوع الطيب قليل الكلام و العلاقات لكن حالة فتيحة الان يلزمها علاقات و علاقات كثيرة …
اقلعت السيارة في الصباح الباكر و هي تقل فتيحة و عمي بوزيد بمعية مسافرين آخرين لن يسرك حالها في هذا الصباح ،الوجه شاحب ومصفر عينان شبه مغلقتان و الشفاه تميل إلى الزرقة في لونها الجسم نحيل كأنه خيال انسان ، كانت تنام وةتقوم في علبة السردين المتحركة المسماة سيارة .
كانت السيارة تلتهم المسافات و الكيلومترات تمضي بشق الأنفس ،الفضاءات تتغير بجهد جهيد ،اوجاع فظيعة وحيرة تملكت عمي بوزيد الذي لا يحسن ابدا التعامل مع هذه الحالات … سار الامر هكذا حتى مشارف مدينة سطيف فلمح ابنته قد انقطع فيها التنفس وصارت يغمى عليها لمرات عديدة فبدأ يصيح كالمجنون وسط ذهول المسافرين : فتيحة بنيتي دعينا نعود للبيت فحالتك سيئة يا حبيبتي هيا يا بنيتي !!! لكن فتيحة بالجرأة المعهودة فيها كانت تمنحه جرعات من الشجاعة فقد فكرت أن طريق العودة ليس إلا توقيع شهادة الوفاة رغم ما ألم بها من الام فقالت بنبرة متثاقلة و منتفضة: لا يا ابي ما عسانا أن نفعل عند العودة مادونا خرجنا يجب أن نكمل للآخر .. مر الحال هكذا حتى وصلا إلى محطة الخروبة و منها انتقلت إلى مستشفى مصطفى باشا في سيارة أجرة في عفوية تعدت ربما إلى خانة الجهل كيف لا و هما قادمان من أقصى نقطة في الشرق الجزائري الى العاصمة دون دراية أو معلومة !! دون حجز موعد !! دون ربط علاقة او اتصال !!! ايعقل هذا يا عمي بوزيد ؟؟
وصل الاب وابنته الى المستشفى و لك ان ترى وجهها باهتين امام كم المرضى و هم ينسلون من كل الاتجاهات و كانك في يوم الحشر فاينما تول وجهك تجد اكواما من المرضى تءن وتتوجع.
هرع عمي بوزيد إلى مصلحة الأمراض الهضمية وهو يحمل متاع السفر وفتيحة تتبعه وقد انهكها تعب السفر عند الوصول إلى مكتب الاستقبال أمرها عمي بوزيد أن تجلس لتنتظره في الكراسي المقابلة للمكتب لكنها أبت وأصرت أن تبقى معه وقف الاثنان أمام ممرض مسن مكشر الملامح صامت لا يتكلم ومن فرط ذلك لا يليق أن يصنف ملاكا للرحمة !! اهتدت فتيحة لفكرة ربما تاتي اكلها مع هذا الرجل : صباح الخير يا سيدي ،رد الممرض بخشونة : نعم ما المطلوب ؟ فتيحة : لقد حجز لنا موعد مع الدكتور جاكري ونحن هنا لذات الموعد !!! التفت عمي بوزيد إليها وعلامات الحيرة مرتسمة في وجهه فأشارت إليه فتيحة أن يدعها تدير هذا الحوار ،تفحص الممرض قائمة المواعيد فلم يعثر على اسم فتيحة فرفع رأسه في وجهها قائلا : لا تحتوي القائمة على اسمك يا سيدتي ..هنا انكشف الملعوب ولا بد من مخرج لكن هذا الممرض الملعون زاد الطين بلة وقال : يجب عليكم التوجه لمصلحة الاستعجالات للفحص هناك ثم توجهون الى هنا !! عمي بوزيد : لكن الا ترانا يا سيدي بامتعتنا لقد قدمنا من بعيد وابنتي حالتها تستدعي الاستعجال !! الممرض : كل من يدخل هذا المستشفى أتى من بعيد وحالته مستعجلة واضاف بصوت حاد : انا هنا أطبق التعليمات فانصرفوا من فضلكم ..
في خضم هذا الموقف الساخن، كان أحد الأطباء المقيمين شاهدا عليه من أوله ويبدو أنه رق لحال هاته المسكينة التي مازالت واقفة من الفجر فتدخل بلباقة طبيب محترف : ماذا هناك ؟ ما الامر يا سيدي ؟ نطق عمي بوزيد : نحن هنا لإجراء الفحوصات لكن الممرض يابا أن يضعنا في القائمة يا دكتور ، رد هذا الدكتور المسمى شاوشي : لا بأس تعالوا اتبعوني ..نظرت فتيحة وعمي بوزيد لهذا الطبيب نظرة حيرة واستعجاب فابتسم ورد : لا تقلقوا سنقوم باللازم ثقوا بي ،سار الدكتور شاوشي ذاك الشاب الابيض قصير القامة ذو الصوت الرقيق واللكنة السكيكدية ،سار في الرواق الطويل ثم توقف و فتح لهما بابا ، دخلا الاثنان واذا به مكتب صغير و سرير فطلب من فتيحة أن تستلقي على السرير وتستريح بينما جلس مقابلا لعمي بوزيد في كرسيي المكتب الطبيب : ما الامر يا والدي ؟ تلعثم عمي بوزيد ثم قال : جءت لاكشف على ابنتي بعد أن أخبرني الأطباء بإصابتها بمرض RCUH وتفاقم حالتها، وقيل لي ان الأطباء هنا سيقومون باللازم وانا انسان لا أعرف أحدا هنا فنعمة من الله علينا أن لاقانا بك اليوم فانظر ماذا ترى يا دكتور كانت فتيحة ترمق الطبيب بنظرات الغريق الذي وجد قشة يتعلق بها واحست بان الامل في هذا الانسان وبالفعل رد الطبيب بكل ثقة : لا تقلقوا سنحل المشكل لكن … ثم التفت الى فتيحة وقال : هل تستطيعين إجراء راديو fibroscopie و coloscopie اليوم ؟ ردت فتيحة دون أدنى تفكير : نعم دكتور جءت لهذا الأمر ولا استطيع الانتظار اكثر الطبيب : تريثوا قليلا لاخلي غرفة الراديو وآتيكم .. هم بالخروج فلحقه عمي بوزيد وقال له : بارك الله فيك يا ولدي لقد جءتنا في الوقت المناسب .
يا سبحان الله اي كرم منك يا ربي ؟ اي فرج هذا ؟ وسط هذه الأعداد المترامية من المرضى وسط الأنين و صداه رجل وابنته جاؤوا من عين البيضاء نقطة نكرة في الشرق بلا موعد بلا توصية ولا حتى معرفة لآخر حارس في المستشفى حباهم الله و ارسل لهم طبيبا ليس إلا قطعة إنسانية تمشي .
بعد فترة لم تكن وجيزة رجع هذا الطبيب وناداهما : هيا قومي يا سيدتي هيا تعال يا والدي ،خرج الثلاثة وحين دخولهم قاعة الراديو كان المرضى منتشرون على اليمين و الشمال يحملقون في فتيحة و عمي بوزيد وهم الذين حظيوا بهذه الفرصة حتى أن بعضهم كيانا أعينهم تشر حقدا لهما هما اللذان سيدخلان الان و عند الباب قابلهم ذاك الممرض المكشر و كأنه غير راض على تصرف الطبيب : دكتور هل أخبرت الدكتور جاكري على هذه المريضة ؟ فثار فيه شاوشي ثورة بركان فاءر: و من اعطاك الحق أن تحاسبني سيدي الممرض ؟؟ فاحمر وجهه ورد باستحياء : لقد قلت ذلك لأن قائمة المرضى ممضاة من طرفه !! الدكتور شاوشي : اذن انطلق وأخبره انني خالفت تعليماته ..انت ممرض فابق في مكانك و الا اسمعتك مالا تحب .. انصرف الممرض و هو يلعن الساعة التي تكلم فيها معه ،فتيحة بقيت مذهولة أهذا الطبيب هو الذي كان قبل هنيهة ملاكا يطير ؟؟
قبل أن يبدا الدكتور شاوشي إجراء الراديو قال لفتيحة : هناك إشكالية في الأمر ؟ فتيحة : وماهي ؟ يجب عليك تناول محلول خاص لتحضير جهازك الهضمي لهذا الراديو !! ثم نقوم بإجراء الراديو بعد اسبوع !! صاحت فتيحة : ماذا اسبوع لكنني لم تتناول أي شيء فانا محضرة لذلك؟ الطبيب : لا يكفي ذلك عمي بوزيد : الا توجد طريقة لاجراءه اليوم فليس لنا مأوى للمبيت يا بني !! فكر الطبيب مليا ثم رد عليه : سأقوم براديو أولي لنرى حالة الأمعاء ثم نعيده بعد اسبوع حين تناول المحلول فردت فتيحة : اذن قم بما يمليه لك راسك يا دكتور وانا جاهزة لذلك ،نطقتها بنفس الفتاة التي يئست من الانتظار و رضيت بركوب اي خطر في سبيل قطع الشك باليقين واماطة الستار عن ماهية هذا المرض اللعين .
قام الدكتور شاوشي براديو أولي فوقف على الحالة الكارثية للامعاء لكنه لم يهول في الأمر وقال : لا نتسرع يا فتيحة تقومين بتناول هذا المحلول و نعيد إجراء الراديو بعد اسبوع بطريقة معمقة ،قال عمي بوزيد : وهل ستكون هنا يا دكتور ؟ دكتور شاوشي : لا تقلق يا والدي ستجدني يوم السبت القادم هنا بانتظاركم ،خرج عمي بوزيد و فتيحة وهما يفكران اين المبيت فتذكر عمي بوزيد صديق دربه مجيد الذي مازال يقطن بعين وسارة فانطلقا الاثنين دون أدنى تردد
تلك هي اول الخطوات في دروب المرض ، الطريق يبدو للوهلة الأولى شاق و طوييييييييل فهل يا ترى لك النفس الأطول يا فتيحة ليس انت فقط بل عمي بوزيد امك خديجة واخوتك ؟ ترى هل لهذا الطريق محطات للامل محطات لالتقاط انفاس و استطعام الحياة ؟ أم أن كل محطاته تجرع مرارة الوجع و غوص في ظلمات الآلام …يتبع